تطبيق نموذج سنغافوره فى مكافحة الفساد فى مصر-----رؤى أ.د/ امين لطفى
أولاً :مقدمة
لقد كانت سنغافوره تحمل لقب الدولة الأكثر فساداً في العالم ، ولكنها بعد أن خاضت أعظم تجربة لمكافحة الفساد أصبحت الآن ووفق معايير منظمة الشفافية الدولية من الدول الأقل فساداً على مستوى العالم طبقاً لم يوضحه الجدول رقم (1).
تمثل تجربة سنغافوره النموذج العالي الأفضل للتطبيق بشهادة العالم لمكافحة الفساد ويرجع ذلك بسبب ما اتخذته من إجراءات سياسية ووقائية وجنائية حتى نفضت عن كاهلها العبء الثقيل الذى يمكن أن تحمله دولة لتتحول إلى دولة شفافة .
فقد كانت سنغافورة من حوالي (60) عاماً دولة عادية مواردها الطبيعية محدودة تحتوى على36 جزيرة . وقد استقلت عن الحكم البريطاني عام 1963 وانفصلت عن ماليزيا عام 1965 ، وقد كانت دولة لديها كافة مشاكل الفساد الإ انه اليوم انطلقت سنغافورة بفعل إرادة سياسية ثابتة وواضحة حددت منهجاً يرتكز على منع الفساد والوقاية منه ومحاربته .
لقد بدأت محاربة الفساد في سنغافورة بالقرار السياسى الذى اطلقه رئيس الوزراء منذ توليه الحكم بقوله اننا لا ننظر لعملية السيطرة على الفساد على إنها مجرد قضية اخلاقية وليس فضيلة وانما حاجة وان المحافظة على ان تبقى نظيفاً وتنبذ الأشخاص القابلين للرشوة يعد من المبادئ القيادية للحكومة . .
ويفسر مدير مكتب التحقيق في الممارسات الفاسدة في سنغافوره عام 2002 المقصود بالقرار السياسى بقوله ان ذلك القرار يوفر الأساس لبذل كافة الجهود والمساعى لمجابهة الفساد ، ويشكل كل الأسس العامة والبنيات الفوقية التى يعتمد عليها كل المناهضين للفساد كما يوفر التربة الصالحة التى تساعد على بذر بذور العمل المناهضة للفساد حتى ينمو الى شجرة راسخة الجذور . ولكن ينبغى الا يكون القرار السياسى مجرد خطب وشعارات دينية جوفاء فالعبرة بالأعمال وليس بالاقوال والأ سيكون القادة السياسيين قد وضعوا انفسهم تحت المجهر واصبحوا بذلك عرضه للمساءلة . كما انهم يدركون تماماً انه اذا كانت بيوتهم من زجاج فلن يستطيعوا ان يقذفوا حجراً واحداً ضد الظلم والفساد .
وتتلخص تجربة سنعافورة التي تعد من انجح التجارب الدولية في مكافحة الفساد في إصدارها قانون مكافحة الفساد بالإضافة إلى إنشاء مكتب التحقيق في ممارسات الفساد بالإضافة لتعاون ومشاركة الشعب في الإبلاغ عن حالات الفساد واضطلاع مكتب التحقيق بمهمته على الوجه الأمثل .
ويجب الإشارة الى ان الإرادة السياسية كما في سنغافوره هى التي تستطيع إنتاج قانون مكافحة فساد حازم وفعال ، ونظام للتقاضي نزيه وسريع ، وإدارة ضبط أدارى وقضائي تتميز بالصرامة والحرفية المهنية .
تلك هي خلاصة التجربة ولكن التفاصيل هى التى صنعت الفارق ويقصد بذلك تفعيل حزم القوانين والتشريعات والإجراءات العديدة التي توجت بالنجاح الذى أشهر العالم .
وبفضل تلك الخطوات الفعلية التى اتخذتها سنغافوره في محاربة الفساد والوقاية منه نجحت في إدارة بلادها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً بنجاح كبير ، حيث أصبح نصيب المواطن من الناتج المحلى بدلا من 511 دولار للفرد أثناء الاستقلال ليتضاعف حتى وصل إلى 56284 دولار عام 2014 وبمعدل نمو سنوى 10.6% (من المعلوم ان نصيب المواطن في مصر عام 2014 – 3198 دولار أي اقل من عشر المواطن في سنغافوره) .
بل واستغلت وضعها على مضيق ملقا الذي يمر به حوالي 40% من خطوط الملاحة العالمية وأصبحت أهم مراكز التجارة العالمية (فهي ثالث اكبر مركز عالمي لتكرير النفط رغماً عن عدم وجود النفط أصلا لديها ) ، كما أن دولة سنغافوره احتلت المركز السابع في مؤشر مدركات الفساد عام 2016 (مصر رقم (108)في ذات العام ) .
وقد تم تلخيص الدروس المستفادة (والتي سيتم توضيحها في ذلك البحث) من نموذج مكافحة الفساد في سنغافوره في أربع دروس يجب على باقي الدول تعلمها هي الإرادة السياسية هي العنصر الرئيسي للنجاح ، كما يجب أن يكون هناك جهاز مستقل عن الشرطة وعن التحكم السياسي كما يجب أن يكون هناك جهاز مكافحة فساد غير قابل للإفساد ، مع ضرورة غلق أسباب الفساد نتيجة تقوية ضوابط الرقابة وتعزيز المحاسبة .
ثانيـــًا: تصريح رسمي عن نموذج سنغافورة في مكافحة الفساد
من الأهمية بمكان القول أن الفساد ونقص الشفافية في البلدان المتقدمة أو النامية لا يعرفان أية حواجز أو عوائق وطنية أو سياسية أو ثقافية. وفي هذا السياق ذكر البنك الدولي من خلال إحدى دراساته الميدانية أنه من المذهل وغير المتصور أن تقوم إحدى البلدان النامية خلال فترة عشرين سنة بافتراض 40.6 مليون بليون دولار وفي نفس الوقت تفقد 48 بليون دولار بسبب الفساد خلال نفس الفترة. ولقد كانت النتيجة غريبة حيث أن الدراسةِ أفادت أن المستجيبين ذكروا أنه على الرغم أن الفساد يعتبر نتاج مخالفات أخلاقية إلا أن ذلك قد حدث في بلد يقال عنه أنه بلد متدين، وبعد عدة سنوات لاحقة تم إجراء نفس المسح وتم طرح نفس الاستفسار وكان الرد أن الفساد كان أمرًا سيئـًا تمامًا لأنه يؤدي إلى إعاقة وعرقلة التنمية القومية. لقد كان هناك تغير في العقل والمنطق بلا شك كنتيجة للتعلم وزيادة الوعي لأفراد الشعب والحقيقة الواضحة أن الشعب لم يكن أعمى تمامًا، ونتيجة لذلك فلاحقـًا فقد تخلص الشعب ذلك البلد في الحقيقة من الحكومة بسبب أنها هي التي كانت مسئولة عن ذلك الفساد.
ومن ثم ينبغي القول بـأنه بسبب أن الشفافية تعد متطلب أساسي لكافة قطاعات التنمية القومية فإن البلدان المانحة تتطلب ربط تدابير ومقاييس مكافحة الفساد والحوكمة (الحكم الرشيد) بحزم المساعدات والمنح والقروض. أن ربط شيء يتوافر شروط معينة يعتبر موضوع ذو حساسية للبلاد المستقبلة لتلك الحزم، بل وأكثر من ذلك إذا كان ذلك وصفة واحدة تتناسب مع كافة الحالات فإن بعض من الدول المانحة تنظر إلى الشفافية كشيء ذو اتجاهين وبعبارة أخرى شارع ذو اتجاهين، كما أن كثير منهم يرى ضرورة النظر إلى شروط تلك الدول المستقبلة والتي تتطلب النظر إلى الظروف التي تعمل فيها الآن – والتي بعضها يتعلق بالعوامل الاجتماعية كما يجب أن يتم النظر للقوى السياسية التي تلعب على مسرح الأحداث قبل فرض تلك الشروط الحاكمة. بعبارة أخرى تطلب تلك الدول تفهم الورطة والمحنة التي تحبط بها إلا أنه من نفس المنطلق يمكن تفهم واحترام ما لدى الدول المانحة من تصورات فهي أيضًا عليها قيود فهي لديها دوائر انتخابية في وطنها سوف تسألها أين ذهبت الأموال فهي تساهم في بنوك دولية وصندوق نقد دولي إذن فهي ليست مجرد دافعة أموال وليس هناك ارتباط بأموال للرهبنة وبالتالي فربما يكون هناك من الضروري إيجاد نوع من التوازن بين الاحتياجات الفورية العاجلة للبلد الآخر. ومن ثم فإن الأمر يكون حساس تمامـًا وهناك جدل صحيح لكلا الطرفين بغض النظر عن المكان الذي يتم الوقوف فيه من تلك الحجة. ويمكن القول أنه من خلال التجربة فإن التمويل الرأسمالي والخاص سوف يتدفق إلى حيث الحزم الأفضل للمطور ورجال الأعمال بمعنى البلد التي تتسم بأنه أقل فسادًا وأكثر شفافية ولا يمكن التملص من ذلك. وكمثال على ذلك حالة سنغافورة التي يعمل خلالها المطور أو رجل الأعمال في مجال الأقراص الممغنطة المدمجة لميكروسوفت حيث كان بإمكانه أن يجعلها ارخص تمامًا من أي مكان في المنطقة أو أي مكان أخر إلا أن التكاليف تعتبر أعلى نسبيـًا، ولكن ما زال يقرر أن يعمل في سنغافورة لأنه ما زال واثقـًا بأن الشركة الخاصة في سنغافورة لن تكون قرصانا للبرامج الالكترونية، وهو واثقـًا من ذلك، علاوة على ذلك فإنه إذا قامت الشركة بالقرصنة فإنه لديه إمكانية الوصول الفوري لاتخاذ الإجراءات القانونية التي من شأنها ضمان تقديم الجاني وعقابه فورًا وأيا كان ذلك الشخص أو من هم أقاربه وسواء ما إذا كان مرتبط بأحد الوزراء. وهذا يعتبر ضد كل العمالة الرخيصة وغيرها من الامتيازات التي يمكن أن تكون لديه في أماكن أخرى. ولذلك فهو يأتي حتمـًا إلى سنغافورة.
وينبغي التأكيد بأن ذلك الأمر لم يكن كذلك لفترة طويلة، حيث عندما أصبحت سنغافورة مستقلة كان هنا عبء ضخم تماما من الفساد والمشاكل في سنغافورة. أن الظروف لم تكن متماثلة، ربما يكون من الأفضل اقتباس فقرة مما ذكره رئيس الوزراء السابق –Lee Kwan yu والذي شغل منصبه عام 1959:- «قررنا أن يكون لدينا إدارة نظيفة clean administration، لقد أصبنا بالاعتلال والمرض بالجشع والفساد وانحطاط كثير من الزعماء الأسيويين. لقد أصبح المقاتلين من أجل الحرية لشعبهم ناهبين لثروتهم. أن مجتمعاتهم قد تراجعت للوراء، لقد وضعنا تأكيد من اليوم الذي توليت فيه المنصب أن كل دولار من الإيرادات سوف يتم المحاسبة والمساءلة عنه على نحو ملائم وسوف يتم توصيله إلى المستفيدين على نحو حقيقي».
وتشير الخبرة إلى أنه بينما للقطاع الخاص والمجتمع المدني والجمعيات الأهلية والحكومات ولاسيما جمعيات الخدمة المدنية الدور الكامل الذي ينبغي أن تلعبه في بناء ائتلاف وتحالف من أجل الشفافية وهو موضوع أساسي في مكافحة الفساد في سنغافورة فلا مناص من أن معظم العناصر الهامة سوف تكون محل ارتباط وتكريس وتذكر دائم من الحكومة. حيث بدون ذلك فإن كافة القطاعات الأخرى ستعاني من مهام شاقة. ويجب على الحكومة أن تظهر إرادتها السياسية وارتباطها وتمسكها بتنفيذ القوانين ذات الصلة بمكافحة الفساد. ولا ينبغي للحظة تدنية الدور الهام للقطاع الخاص أو اللاعبين الرئيسيين الآخرين. ولكن ما لم تكن الحكومة جادة وعازمة على وضع نهاية للفساد بالإضافة إلى تشجيع الحوكمة الجيدة سيكون هناك مشقة بالغة لهؤلاء اللاعبين الآخرين.
تتسم الحملة ضد الفساد في سنغافورة بأنها عملية مستمرة ويتم قيادتها عن طريق القادة والزعماء السياسيين أنفسهم. أن الهيئة الرئيسية في تلك الحرب تتمثل في مكتب التحري والتحقيقات عن ممارسات الفساد Corrupt practices Investigation Bureau (CPIB) والتي تستمد سلطاتها واختصاصاتها من خلال قانون أصدره البرلمان. أن رئيس ذلك المكتب أو مديره مسئول مباشرة أمام رئيس الوزراء. فليس هناك أي مدير أو أي مسئول يمكن أن يعيق أو يتداخل أو يؤثر على عملية اتخاذ القرار أو التحريات أو التحقيقات التي يقوم بها المكتب (CPIB). أحد تلك الأمور الأولى التي قامت بإجرائها الحكومة هو تعزيز وتقوية مكتب التحقيقات في ممارسات الفساد. وأدى ذلك إلى جعل ذلك المكتب لديه القوة والصلاحية الكافية لاستدعاء أي فرد في البلد للمثول قبل المكتب للإدلاء والرد على أية أسئلة أو استفسارات. ولا شك أن أحد التغيرات التي حدثت على نحو أكثر دراماتيكية كانت تتعلق بالإفراد على وجه التحديد بالإضافة إلى التنظيمات والمؤسسات هي الأخرى. فإذا كان أحد الأفراد مسئولاً مدنيـًا يكسب 500 دولار في الشهر وإذا كان يقود سيارة BMW المجموعة الخامسة وأن زوجته تقود سيارة مرسيدس وكان الفرد يمتلك منزلاً تبلغ قيمته حوالي 5 مليون دولار، ومن ثم فإن ذلك الشخص يتعين عليه الإجابة على سؤل من أين حصل على تلك الأموال، فإذا لم يستطيع الإجابة، وإذا كان لديه عم وترك لك تلك المبالغ من النقود.. فإن ذلك قد يبرر الأمر بوضوح، في حين أنه إذا لم يستطع ذلك الشخص إثبات مصدر تلك المبالغ فسوف يفترض انه قد حصل عليها من خلال أحد ممارسات الفساد وسوف يتم اتهامه عن ذلك (سواء سيارته أو سيارة زوجته أو منزله)، وسوف يتم مصادرة تلك الأموال. حيث أن القوانين وتنفيذها يتم على نحو صارم فالفساد ليس فقط مجرد جريمة ارتكبها ذلك الشخص الذي حصل على تلك الأموال فحسب وإنما أيضًا تعد جريمة للشخص الذي أعطاها له. ومن ثم فإن هناك عدد أو سلسلة من التعزيزات بتفعيل القوانين لضمان أن هؤلاء الذين ارتكبوا ممارسات فساد سوف يتم معاملتهم ومحاسبتهم على نحو صارم طبقـًا للقانون.
وجدير بالذكر فإن تلك الهيئة (هيئة التحقيقات عن ممارسات الفساد CPIB) لا تسري فقط على الأفراد الفاسدين بعد ارتكابهم لتلك الممارسات وإنما هي تعتبر أيضًا في حد ذاتها بمثابة أنشطة وقائية Preventive ومانعة للفساد Corruption Prevention، ويقصد بذلك بأنها تنصرف على الإدارات والأقسام التي حدث فيها الفساد. أن إدارة الهجرة على سبيل المثال ثبت أن فيها أحد ممارسات الفساد ومن ثم تقوم هيئة التحقيقات باتخاذ اللازم نحو دراسة كافة جوانب عمليات الأعمال المختلفة المؤدة بالإدارة والظروف التي في ظلها كان يم العمل عند تلك النقطة من الزمن وأفضل آلية للتصرف على النحو الذي يمكن معه إلغاء الفساد. وقد أصبح ذلك محور سياسة الحكومة الآن في كل إدارة - حيث يتم التطلع والنظر إلى عمليات العمل والسعي نحو بذل الجهد نحو إلغاء الفساد ذو الصلة.
وفي الواقع أن ما حدث في سنغافورة هو أسهل شيء يمكن ملاحظته واتباعه نظرًا للترتيب المتقدم الذي أحرزته في مؤشر مدركات الفساد الذي تقوم بإجرائه المنظمة الدولية للشفافية وسط عديد من الدول الأخرى المتقدمة. ولكن ينبغي الإشارة إلى أن سنغافورة كبلد لها ظروفها المختلفة، فهي بلد تعتبر صغيرة نسبيـًا، كما أن عدد سكانها يبلغون بضعة ملايين إلا أن ما تم عمله حقيقة يمثل نموذجًا حقيقيًا لأي كيان أو مؤسسة أو بلد. وهو نموذج أو تجربة لا يمكن أن يتم نقلها بحذافيرها كما هي. فلا يمكن القول بتعميم شيء واحد ذو حجم معين على كافة الأحجام. ورغمـًا عن ذلك فإن هناك مبادئ رئيسية ينبغي إتباعها والالتزام بها يمكن إيجازها على النحو التالي:-
أولاً: أن الحرب ضد الفساد يجب أن يتم قياداتها وإداراتها عن طريق القادة والزعماء السياسيين. ويجب أن يكون هناك نزاهة كاملة عند ذلك المستوى. فإذا لم يكن لديهم مثل هذه النزاهة فلن يكون لديهم الخلفية الأخلاقية لمحاربة الفساد. ولذلك فإن تلك النقطة تعتبر متطلبـًا أساسيـًا مسبقـًا.
ثانيًا: يجب أن تكون هناك تشريعات قانونية كافة لمحاربة الفساد وليس مجرد وجود تشريع صارم أو تشريع غير عادل هو المطلوب ولكن المطلوب أيضـًا تفعيل ذلك التشريع الملائم – فإذا كان قد تبين أن أحد الأشخاص وجد أنه فاسد فسوف يتم وضعه في حجمه السليم من خلال التحقيق العادل الناجز وبمثابة في حالة اتهامه. ويجب أن يتم ذلك لكل شخص أيًا كان نفوذه أو أقاربه.. حيث يجب التعامل مع الوزراء بنفس الآلية، فليس هناك احد فوق رأسه ريشه.. ومن ثم يجب أن يؤسس التشريع هيئة لمكافحة الفساد anticorruption agency والتي ينبغي أن تكون فعالة ويتعين أن يتم تقويتها كما يجب أن يكون لها الصلاحيات فوق أي من الوزراء وتقوم بإرسال تقاريرها مباشرة إلى شخص واحد هو الرئيس. فذلك يعتبر أمرًا هامًا فالشعب في البلد يجب أن يكون لديه الصدق في تلك الهيئة، فإذا لم يكن لديه تلك الثقة في تلك الهيئة فإن ذلك بمثابة النهاية للتعامل مع الفساد.
ثالثًا: بهدف إزالة احتمالات حدوث الفساد في الحكومات أو الإدارات (كما سبق الإشارة بالنسبة لإدارة الهجرة أو الجمارك أو أي كان مسمى تلك الإدارة) فإن هناك عمليات ينبغي التطلع إلى القيام بها وعمليات يتعين أن يتم تغييرها.
رابعًا: يجب أن يكون هناك شيئــًا أخر موجودًا تم ذكره في بداية ذلك الجزء ويتمثل في مجموعة الزعماء والقادة والمسئولين الذين ينبغي اختيارهم على أساس القدرات الشخصية وعلى أساس الانجاز – بمعنى اختيار قيادات أكفاء عند التعيين وعند الحصول على الوظيفة بمعنى أخر يجب أن يتم الاختيار على أساس جدارة ذلك الشخص وليس مجرد أن الشخص لديه قريب أو نفوذ وما إلى ذلك.
خامسًا: أن أحد الأمور الهامة التي فعلتها سنغافورة – أنه كان هناك مشاكل مع رجال البوليس أو مع أي مسئول يعمل في إدارة الضرائب أو الجمارك. فإنه يتعين أن تم زيادة مرتبات ومخصصات هؤلاء المسئولين كما يجب أن يكون لديهم الجدارة الكافية لأداء العمل بنزاهة وذلك لتفادي التعرض لمخاطر قبول الرشاوي.
سادسًا: أن أعمال ومشروعات الأفراد الذين يكون لديهم ثروات متزايدة يتعين على أن يتقدموا للحكومة أو إلى هيئة تحقيقات ممارسات الفساد بالشرح والتوضيح الموثق الكافي.
سابعًا: وأخيرًا ينبغي التأكيد باختصار بأنه ما لم تكون هناك حكومة جادة ملتزمة مسئولة عن تفعيل التشريعات الموجهة لمكافحة الفساد وتعزيز الشفافية والنزاهة بهدف محاربة ذلك الفساد فلن يحدث أي شيء ولن يتم الانتقال إلى المستوى المستهدف للوقاية من الفساد.
ثالثـــًا: الدروس المستفادة من نموذج سنغافورة في مكافحة الفساد
وتتلخص تجربة سنغافورة في مكافحة الفساد عام 1959، في إصدارها «قانون مكافحة الفاسد». بالإضافة إلى إنشاء «مكتب التحقيق في ممارسة الفساد» وبالتزامن تمت زيادة رواتب الموظفين الحكوميين، وتحسين مستوى أدائهم للخدمة.
وبالفعل نجحت سنغافورة في مكافحة الفساد وأرجع رئيس وزرائها – آنذاك - «لي كوان يو» هذا النجاح إلى إصدار القانون الخاص بمحاربة الفساد وتعاون الجمهور في الإبلاغ عن حالات الفساد واضطلاع مكتب التحقيق في ممارسة الفساد بمهامه على الوجه الأمثل.
هذه هي خلاصة التجربة، ولكن التفاصيل وتفعيلها هي التي صنعت الفارق، ويقصد بها حزمة القوانين والتشريعات والإجراءات، التي توجت التجربة بالنجاح الذي أبهر العالم ويمكن إيجاز تلك الإجراءات فيما يلي:
- أن الإرادة السياسية – كما في سنغافورة – هي التي تستطيع إنتاج قانون مكافحة فساد فعال، ونظام للتقاضي نزيه وسريع، وإدارة ضبط إداري وقضائي يتميز بالصرامة والحرفية المهنية.
- وبالنسبة لسياسة الوقاية من الفساد فبالإضافة إلى التوعية وتأمين الضبط الاجتماعي بوسائله المختلفة، اتخذت سنغافورة ما يلي:
- الفصل بين الوزارات وإداراتها التنفيذية، حيث تتولى التنفيذ هيئات ومؤسسات منشأة بقانون، لإبعاد الوزارة عن سلطة التنفيذ، وإزالة كل ما يمكن أن يترتب على ذلك من فساد، ولا يبقى للوزارة إلا التخطيط الاستراتيجي للمدى المتوسط والبعيد.
- زيادة مرتبات الموظفين في الدولة بحيث تكفي لتوفير مستوى حياة كريمة، باعتبار أن دفع أجور مرتفعة أهم رادع للفساد.
- تبسيط الإجراءات الإدارية وتدنية حجم المستندات والوثائق المطلوبة للحصول على الخدمة مع وضع مدونة إجراءات إدارية واضحة.
- التضييق من السلطات التقديرية للإدارة التنفيذية بوضع قوانين ومعايير دقيقة يستند إليها في أدائه لعمله لتفادي المناطق الرمادية.
- الحد إلى أكبر قدر من تعامل الموظفين بالمال (الموظف لا يرى المال وإنما يرى الأرقام)، فالرسوم والغرامات تدفع الكترونيًا. وقد تم إنشاء إدارة تولت تعليم المواطنين كيفية الدفع الالكتروني بعبارة أخرى الاهتمام بالتوسع في استخدام الخدمات الالكترونية في الإدارات.
- التوسع في تقديم الخدمات بالطريق الالكتروني للتقليل من الاتصال المباشر بين الموظف وطالب الخدمة.
- وضع أنظمة شفافة تؤدي غلى التقليل إلى حد كبير من الأسرار التي يملكها الموظف العام بسبب وظيفته.
- إنشاء هيئة لمراجعة تاريخ الأفراد قبل توظيفهم لضمان عدم تولي أي شخص لمنصب قيادي أو عمل سياسي بسبب شبهات سابقة بالفساد.
- الحد من نشر ثقافة الفساد في سنغافورة، ومنع نشر إشاعات عن حالات فساد دون وجود أدلة واضحة، واعتبار ذلك جريمة في حد ذاته.
- حظر استعمال الصفة في الأماكن التي تقدم خدمات بالنسبة للقضاة وأعضاء النيابة العامة والموظفين العاملين كافة.
- تحديد أجل ستة أشهر يجب أن تفصل فيه المحاكم في القضايا المعروضة عليها وعدم التأجيل لتاريخ يتجاوز هذا الأجل مكافحة الفساد جنائيـًا.
- وضع قانون لمكافحة الفساد وتبني وجود جهاز أو هيئة واحدة لمكافحة الفساد
-
(وهذا سيكون موضع بحث مستقل).
وقد قدمت سنغافورة نموذج فريد في مكافحة الفساد بخلاف إنشاء مكتب تحقيقات ممارسات الفساد، حيث تم إنشاء هيئة لمكافحة الفساد مستقلة عن جهاز الشرطة مما مكنها من ان تحصل على أعلى مراكز تصنيفات مدركات الفساد عالميًا متقدمة بذلك على عديد من الدول الغربية مثل بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
- وقد شملت السياسة الجنائية التي اتبعتها سنغافورة في مجال مكافحة الفساد جانبـًا موضوعيًا وآخر إجرائيًا. ويمكن إجمال خصائص نظام الفساد على النحو التالي:
- وجود هيئة تتبع رئيس الوزراء ويعين أعضاؤها بقرار منه بعد أن كانت تابعة لوزارة الداخلية، تتولى دون غيرها جمع الاستدلالات والتحقيق في إعطاء سلطات واسعة لأعضاء هيئة مكافحة الفساد في الكشف عن الجرائم ومن ذلك مراقبة التغييرات التي تطرأ على حياة الموظفين. عند التحقيق في قضية من قضايا الفساد يجب أن يتعدد المحققون، بحيث لا يجوز أن يتولى القضية محقق واحد.
ولاشك فإن تجربة سنغافورة في مكافحة الفساد التي تعود إلى العام 1952 عندما أنشئ مكتب التحقيقات في وقائع الفساد كهيئة مستقلة تستمد شرعيتها القانونية من قانون مكافحة الفساد Prevention of Corruption Act (Chapter 241). ومدير المكتب يتبع رئيس وزراء سنغافورة تبعية مباشرة ويرفع إليه التقارير ويتلقى منه التعليمات بشكل مباشر. وتتلخص المهمة الرئيسية للمكتب في محاربة الفساد عبر إجراءات سريعة وفاعلة وحازمة ولكنها عادلة في الوقت ذاته.
أن تجربة مكتب التحقيقات في ممارسات الفساد في سنغافورة يتسم بأنه يستند على مدخل إعلان اتصالي وتتلخص مهمته في محاربة الفساد عبر إجراءات سريعة وفاعلة وحازمة ولكنها عادلة في الوقت ذاته، ويتسم ذلك المدخل بالخصائص التالية:
- تقوم السياسة الإعلامية للمكتب بشكل أساسي على توعية الجمهور بمظاهر الفساد المختلفة والوقوف على بعض الإجراءات الوقائية Preventive Measuresللحد من انتشار هذه الظاهرة منها مثلاً تزويد الموظف العام بقائمة من الأفعال التي ينبغي عليه تجنبها وتلك التي يجب عليه اتباعها A list of "Dos" for public officers and a list of "Don’t's" كي يتفادى ارتكاب أي مظهر من مظاهر الفساد.
وقد أفرد المكتب قسماً مستقلاً بهذا الخصوص يعنى بتثقيف المجتمع Education، وإلقاء الضوء على بعض الاعتبارات الإستراتيجية Considerations Strategic التي ينبغي على الجماهير إدراكها جيداً منها مثلاً توضيح أن الحكومة في سنغافورة لديها من الإرادة السياسية الحازمة بما يكفي لتطبيق قوانين مكافحة الفساد ومعاقبة المتورطين فيه مهما ارتقت درجاتهم الوظيفية.
- يقدم الموقع الإلكتروني للمكتب خدمات تثقيفية تفاعلية يتم من خلالها اختبار مستوى معارف الزائرين بمظاهر الفساد وطرق مواجهته، منها مثلاً نافذتي الأسئلة التفاعلية Quiz Interactiveوالألعاب التفاعلية Interactive Game، إضافة إلى العديد من الخدمات الإلكترونية الأخرى E Servicesالتي يتيحها الموقع كالاشتراك في محادثات جماعية Prevention Talks حول ظاهرة الفساد بين أطراف ينتمون للقطاع العام أو الخاص، كما يتيح الموقع خدمات إلكترونية أخرى كالمنشورات Publications، والخطابات Speeches، والعروض التقديمية Presentations ذات الصلة بظاهرة الفساد.
- لعل أهم ما يميز الموقع الإلكتروني للمكتب حملات التوعية الوقائية المصورة Clips Video Prevention Corruption التي يتيحها الموقع لزائريه، ويلاحظ الزائر أن هذه الحملات قد تمت صياغتها بطريقة غاية في الاحترافية والجاذبية من حيث الشكل والمضمون.
- في إطار السعي لإشراك المواطنين العاديين في مكافحة الفساد تنبني السياسة الإعلامية للمكتب في أحد أوجهها على تقديم خدمات إلكترونية سهلة الاستخدام تمكن المواطنين من الإبلاغ عن وقائع فساد عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة دون خشيتهم من التعرض للمساءلة القانونية، ويروج الموقع في هذا الإطار لحملة إعلامية ترفع شعار: مواطن شريف يعني أمة شريفة A Clean People.. A Clean Nation.
رابعاً : توصيات مقترحة للتطبيق في مصر فى ضوء تجربة سنغافوره في مكافحة الفساد
1- وضع قانون خاص بمكافحة الفساد ومحاربته والوقاية منه يتضمن عقوبات مشددة تتعلق بالفساد (الحبس او الغرامات وإعادة كامل قيمة الرشوة او التربح ) .
2- تعزيز نظام ضبط وعقاب الفاسدين على نحو عادل وناجز وفورى يتضمنه ذلك التشريع ويتولاه جهاز مستقل .
3- إنشاء مكتب التحقيقات في ممارسات الفساد تابع لرئيس الجمهورية ويكون له سلطات واسعة مثل إلقاء القبض على الأفراد والتحقيق مع اى شخص ايا كان منصبه والتى قد تصل الى تنفيذ عمليات التفتيش والمصادره .
4- إنشاء هيئة مستقلة لمكافحة الفساد تتولى التنسيق بين كافة الهيئات ذات الصلة على ان تتضمن هيكل تنظيمى مدعم بموارد بشرية متخصصة على نحو ملائم لمكافحة الفساد . ففى سنغافوره يوجد جهاز فساد واحد فقط الا انه بالتنظيم والصلاحيات والشفافية الكافية كان الأمر كافياً لأداء المهمة (رغماً عن انه يوجد اكثر من (15) جهاز في مصر ورغماً عن ذلك فالإداء غير فعال والصلاحيات متضاربة فضلاً عن عدم التشارك في المعلومات) .
5- يجب الا تزيد فترة التحقيقات وتحديد العقوبات على الفاسدين أياً كانت مناصبهم عن عام واحد بحد اقصى حيث تتم محاكمة المتهم وإدانته وعقابه او إعلان براءته – حيث ان طول فترة التقاضى تشجع الفاسدين وتعطل أعمال المستثمرين الشرفاء .
6- تشديد العقوبات المتعلقة بالفساد بالحبس (مدة تزيد عن (5) اعوام ، وغرامات تزيد عن (50) ألف دولار فضلاً عن إعادة الرشوة او التربح او مضاعفة مدة الحبس) .
7- زيادة وعى المواطنين بحضور القانون والدولة في حياتهم اليومية من خلال سن قوانين على مخالفات قد يتم النظر على إنها امور صغيرة ولكن اثرها كبيرة مثل إلقاء القمامة او عدم التعامل بعناية مع الممتلكات العامة من خلال دفع غرامات او قضاة فترة خدمة عامة – وبعبارة اخرى تنفيذ القوانين بصرامة وبالمساواة .
8- في حالة إدانة اى موظف بالفساد يتم مراجعة كافة التعاقدات والقرارات التى تم اخذها قبلها ، واعتبار عدم ابلاغ الموظف الذى اخذ رشوة عليه حتى لو رفضها جريمة ، واى صاحب أعمال يدفع رشوة تلغى جميع تعاقداته مع الحكومة وليس التعاقد محل الرشوة فقط وعدم حصوله على اى تعاقدات اخرى لمدة خمسة اعوام .
9- تفعيل الرقابة الشعبية على الموقع الرسمى لمكتب تحقيقات ممارسات الفساد حيث يتقدم المواطنين بأيه بلاغات في حالات الفساد المعروضة . وعمل حملات إعلامية بذلك .
10- إتاحة الدفع والتحصيل الألكترونى في كافة التعاملات والتفعيل المستمر للشمول المالى بالبنوك .والاستفادة من الخدمات الألكترونية خلال تعميم الخدمات الالكترونية بهدف تقليل التعامل المباشر بين الموظفين والجهور ، مع تحقيق الشفافية والعلنية في التعاملات الحكومية مما يمكن خفض حجم البيروقراطية لأدنى حد.
11- كشف المسئولين على نحو الزامى عن ممتلكاتهم واموالهم هم وأسرهم ، مع مراجعة مكتب التحقيقات لكشف اى فارق بين دخلهم المعلن ومستوى انفاقهم .
12- وضع قانون حرية تداول المعلومات .
13- اللجوء الى تطبيق سياسة وقائية ضد الفساد على نظاق واسع إضافة الى اللامركزية فى التنفيذ ، مع التأكيد على دور الأعلام في توجيه الرأى العام نحو المشاركة في مكافحة الفساد وتأمين الضوابط بوسائلها مع الفصل بين الوزراء واعداد التنفيذ .
14- اتباع هيئة مكافحة الفساد ومنهج الوقاية من الفساد حيث يتعدى دور تلك الهيئة من الضبط القضائى ليمتد الى الجوانب الأرشادية والضبط الإدارى الوقائى ، فهى تستطيع ان تمنع أية شركة من الدخول في مناقصة لمدة خمس سنوات او نهائياً او تحول دون تقلد موظف عام لمركز قيادي .
15- استخدام وسائل تقنية متعددة من قبل هيئة مكافحة الفساد من اجل ضمان الفاعلية في أدائها ومن ذلك استخدام جهاز كشف الكذب لجميع المعلومات والتأكد من مصداقيتها ، مع الاعتماد على تسهيل إثبات جرائم الفساد بإيجاد ما يسمى بقرائن الإدانه فالزيادة في دخل الموظف العام من خلال مراقبة طريقة معيشته تعتبر قرينه على كسبه مال فاسداً الإ إذا أثبت العكس .
كلمة اخيرة قضية تجربة سنغافوره في مكافحة الفساد فريدة ونموذج عظيم يحتذى به من خلال دول العالم . . ومفاد تلك التجربة ان الشعب في سنغافوره لم يكن فاسدا وفجأة هداه الله فأصبح شعباً من الملائكة .. فالشعب والناس هما واحد إلا ان اسلوب الحكم وإرادته هو الذى تغير . . ومن هنا أثمر ذلك النموذج عن أفضل دولة لممارسة الأعمال ومحاربة الفساد من خلال شهادة كافة دول العالم ومنظماته الدولية .
* سنغافوره جمهورية تقع على جزيرة في جنوب شرقى آسيا ، تمتلك تاسع أعلى احتياطى في العالم ، تعد اسرع دولة فى انعاش اقتصادها بنمو وصل الى 17.9% ، يزيد عدد سكانها عن (5) مليون نسمة ، يزيد الناتج القومى الأجمالى عن 300 مليار دولار .