دور الأجهزة الرقابية فى ظل البرلمان الجديد: نحو المزيد من التكريس لصلاحيات السلطة التنفيذية

وافق مجلس النواب المصرى برئاسة الدكتور على عبد العال ، خلال جلسته العامة، المنعقدة يوم الأحد 17 يناير 2016 على القانون رقم 89 لسنة 2015 الصادر من رئيس الجمهورية والخاص بإعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم. وهو القانون الذى جاء مقتضبًا جدًّا، حيث يتكون من مادة واحدة ولا يرتبط بأى قوانين أخرى ، وينص القرار على أنه : يجوز لرئيس الجمهورية إعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم فى الحالات الآتية:
• إذا قامت بشأنه دلالات جدية على ما يمس أمن الدولة وسلامتها.
• إذا فقد الثقة والاعتبار.
• إذا أخل بواجبات وظيفته، بما من شأنه الإضرار بالمصالح العليا للبلاد أو إحدى الشخصيات الاعتبارية العامة .
• إذا فقد أحد شروط الصلاحية للمنصب الذى يشغله لغير الأسباب الصحية.
وقد وافق المجلس بواقع 328 عضوا، ورفض 134 عضوا، وامتنع 13 عضوًا عن التصويت. ومن أجل تقييم هذا القرار بقانون، نخصص هذا البحث ، على أن يكون هذا التقييم قائما على محورين أولا: الأهمية المحلية والدولية لمكافحة الفساد. ثانيا: قراءة للقانون الجديد وتأثيره على دور الأجهزة الرقابية.
أولا: الأهمية الدولية والمحلية لمكافحة الفساد
شهد المجتمع الدولى، منذ مطلع القرن الحادى والعشرين، اهتماما ملحوظا فى الكفاح العالمى ضد الفساد، ويعكس هذا الاهتمام الدولى بآليات مكافحة الفساد ــ يقينا ــ أن الفساد من أهم معوقات التنمية العادلة، ومن أهم مسببات غياب الاستقرار السياسى وتحلل المؤسسات، ومفاصل الدولة الحيوية، وتدهور الخدمات العامة، وغياب الثقة بين المواطن والحكومة، وازدياد الفجوة الاجتماعية بين المواطن ونخبة المال والسلطة. ومن أهم أدوات مكافحة الفساد وكل الآثار السلبية المترتبة عليه، هو وجود أدوات وجهات رقابية مستقلة وفاعلة، وبالتالى فإن أى تضحية بفاعلية واستقلال تلك الأجهزة والأدوات الرقابية وخضوعها للجهة التى من المفترض أن تراقب عليها، يؤدى إلى تبعات سياسية واجتماعية واقتصادية غير محمودة . وهناك اليوم عدد من الآليات متعددة الأطراف1 التى أنشئت خصيصا لمعالجة مشكلة الفساد من أهمها:
• الاتفاقية الأكثر شمولا وهى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والتى دخلت حيز النفاذ فى ديسمبر 2005، حيث تغطى الاتفاقية جميع مجالات العمل من تطبيق للقانون، ومنع الفساد فى القطاع العام، ومنع الفساد فى القطاع الخاص، ثم وضع آليات للمتابعة، كما تقيم الاتفاقية لأول مرة ، إطار عمل للتعاون فى حالات استرجاع الأموال.
• وفى أوروبا، تم تطوير ثلاث أدوات أولية لإرشاد الأعضاء فى مكافحة الفساد؛ ميثاق القانون الجنائى ضد الفساد، وميثاق القانون المدنى، وآلية مراجعة النظراء لرصد وتطبيق هذه المواثيق. كما طور الاتحاد الأوروبى عدة وثائق لإرشاد الأعضاء . تشمل هذه الوثائق ميثاق الاتحاد الأوروبى حول مكافحة الفساد، الصادر سنة 1997، والعمل المشترك للاتحاد الأوروبى سنة 1998 حول الفساد فى القطاع الخاص، وهناك أيضا إطار عمل الإتحاد الأوروبى لسنة 2002 حول مكافحة الفساد فى القطاع الخاص، وميثاق الاستقرار الذى طوره سنة 2002 فيم يعرف بمبادرة ميثاق الاستقرار لمكافحة الفساد.
• وفى أمريكا اللاتينية ، نشأت آلية مراجعة النظراء لرصد تطبيق مكافحة الفساد سنة 2001، كنتيجة لميثاق ضد الفساد تم بين الدول الأمريكية برعاية منظمة الدول الأمريكية ( OAS) .
• وكذلك فى آسيا، وأفريقيا، والشرق الأوسط، ومهمة العمل المالى (FATF) التى تساهم بشكل كبير فى الأجندة الدولية لمكافحة الفساد، ومجموعة الثمانى التى جعلت الكفاح ضد الفساد على رأس أولوياتها ، بما فى ذلك الجهود الرامية إلى مكافحة الفساد فى أعلى المستويات، وحجب الملاذ الآمن عن الرسميين الفاسدين، والتنسيق لاسترجاع الأموال المكتسبة بصورة غير مشروعة، ودعم مرشدى الشفافية لتحسين الموازنات، ومنح الامتيازات للمحاسبة والشفافية.
كما أن الأعراف الدولية تتجه إلى تحصين الجهات الرقابية، على اختلاف نشأتها، سواء كانت برلمانية أو تنفيذية. فمثلا نظام الأمبودسمان الإسكندنافى الأصل، والمنطلق من فكرة أن الحكومة لاتوجد القانون فقط ولكنها أيضا تكون موضوعا له، والمعمول به فى العديد من الأنظمة مثل السويد، وفنلندا، والدانمارك، ونيوزلندا، وكذلك المملكة المتحدة، هو النظام الذى تبنته عدة دول من شرق ووسط أوروبا، وتتبناه أيضا نيجيريا وتنزانيا. وقد تم تقديم تطويرات مهمة وملموسة على النموذج التقليدى للأمبودسمان ليكون أكثر ملاءمة للنظم التى لا يلعب فيها البرلمان دورا محوريا فى توجيه دفة الحكم، وتكون اليد الطولى فيها للسلطة التنفيذية، وتقدم فرنسا النموذج الأهم فى هذا الصدد. ويتم تعيين الأمبودسمان الحكومى بمرسوم من رئيس الجمهورية لمدة ست سنوات، ولا يمكن عزله خلال هذه المدة، أو إنهاء ممارسة أعمال وظيفته إلا عندما يتعذر عليه القيام بواجباته الوظيفية، ويُترك أمر تقدير ذلك إلى لجنة مكونة من نائب رئيس مجلس إدارة الدولة، ورئيس محكمة النقض، ورئيس ديوان الرقابة المالية، ويتخذ القرار بالإجماع. هذا ويتمتع الأمبودسمان الحكومى-أو وسيط الجمهورية كما يطلق عليه- باستقلال تام، فلا يتلقى أى تعليمات من أى سلطة، ولا يمكن إلقاء القبض عليه أو ملاحقته، أو توقيفه، أو حجزه بسبب أعمال وظيفته، أو الآراء التى يدلى بها 2.
• وعلى المستوى المحلى ، فقد نص دستور 2014 فى مادته 215 على «تمتع الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية بالشخصية الاعتبارية ، والاستقلال الفنى والمالى والإدارى، وأن يؤخذ رأيها فى مشروعات القوانين ، واللوائح المتعلقة بمجال عملها». وسمَّت المادة عددا من هذه الأجهزة، هى تحديدا (البنك المركزى، والهيئة العامة للرقابة المالية، والجهاز المركزى للمحاسبات، وهيئة الرقابة الإدارية). بينما تنص المادة 216 من الدستور على أن «يعين رئيس الجمهورية رؤساء تلك الهيئات والأجهزة بعد موافقة مجلس النواب بأغلبية أعضائه لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، ولا يعفى أى منهم من منصبه إلا فى الحالات المحددة بقانون»3.
كما جاءت الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد الصادرة 2014 4 على اعتبار أنها إطار عام لمكافحة الفساد للسنوات 2014-2018، وعلى أنها-كما ورد بمقدمتها- تتبنى مبادئ المساءلة والمحاسبة دون أى مجاملة أو تمييز ، وأن مكافحة الفساد هو واجب وطنى أساسى لتحقيق التنمية المستدامة للوطن.
هذه الاستراتيجية ورد فيها ــ ضمن أسباب الفساد فى مصر ــ ما سمته «الأسباب المتعلقة بالترتيبات المؤسسية لمكافحة الفساد»، والتى ورد فيها نص «تبعية بعض الأجهزة الرقابية المعنية بمكافحة الفساد للسلطة التنفيذية، بما يؤثر على استقلاليتها»، وأيضا «افتقار أعضاء الأجهزة الرقابية إلى الحصانات الكافية للقيام بدورهم»، وكذلك «وجود بعض القيود الإجرائية بشأن التحقيق مع شاغلى الوظائف العليا بالجهاز الإدارى للدولة».
ثانيا: قراءة فى القانون رقم 89 لسنة 2015:
وهى القراءة التى يمكن أن تجرى أولا على الصعيد التشريعى؛ فمن السهولة بمكان أن يتضح تعارض القانون رقم 89 لسنة 2015 بشكل صريح مع المبادئ الدستورية الواردة فى المادتين 215، 216 المشار إليهما آنفا، ذلك أن القانون الجديد يغيب ضمانات الاستقلال والحياد، وذلك بمنحه رأس السلطة التنفيذية صلاحيةعزل رؤساء الأجهزة الرقابية والهيئات المستقلة.
كما يتعارض أيضًا هذا القانون، صراحة، مع المادة 20 من القانون رقم 157 لسنة 1998 بتعديل بعض أحكام قانون الجهاز المركزى للمحاسبات الصادر بالقانون رقم 144 لسنة 1988، والتى تنص على عدم جواز إعفاء رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات من منصبه.
وأخيرا، فإن القانون الجديد يتعارض واستراتيجية مكافحة الفساد الصادرة من مجلس الوزراء فى ديسمبر 2014، بمناسبة مرور خمسين عامًا على إنشاء هيئة الرقابة الإدارية، والتى ذكرت صراحة أن من أهم المعوقات المؤسسية لمكافحة الفساد هو افتقار أعضاء الأجهزة الرقابية إلى الحصانات الكافية للقيام بدورهم، وتبعية بعض الأجهزة الرقابية المعنية بمكافحة الفساد فى مصر للسلطة التنفيذية، بما قد يؤثر فى استقلاليتها فى الجزء الخاص بالترتيبات المؤسسية لمكافحة الفساد .
كما يرى البعض أنه حتى قبل صدور القانون الأخير، كان ثمة تعارض بين الأطر التشريعية المنظمة لعمل الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من جهة والمواد الدستورية للدستور الحالى الخاصة بتلك الهيئات من جهة أخرى، وكان من المنتظر أن تتم تعديلات تشريعية فى قوانين الهيئات المستقلة لجعلها أكثر توافقًا مع الدستور الجديد، لكن بدلًا من ذلك، فوجئنا بالقانون الأخير يزيد الفجوة اتساعًا بين القوانين المنظمة لعمل الهيئات المستقلة، والأجهزة الرقابية والدستور.
وبالنظر على صعيد آخر وهو صعيد الخبرة التاريخية لأبرز الأجهزة الرقابية فى مصر ، وتأثير القانون الجديد عليها ؛ يمكننا تقديم الملاحظات التالية:
- يكاد يكون الجهاز المركزى للمحاسبات هو الجهاز الرقابى الأبرز فى مصر، حيث يختص بالرقابة على مجمل الأموال العامة وأموال الأشخاص العامة، وقد تم تأسيس الجهاز المركزى للمحاسبات عام 1964 بالقانون رقم 129، وكان الجهاز حينها يتبع رئيس الجمهورية بشكل مباشر، حيث يعين رئيس الجمهورية رئيس الجهاز، وكانت وزارة الخزانة (نظير وزارة المالية حينئذ) هى من تقوم باستصدار موازنة الجهاز، وهو ما يضع الجهاز بشكل كامل تحت سيطرة السلطة التنفيذية، وكانت هذه هى السمة المميزة لهذه الفترة من تمركز السلطة بشكل كامل فى يد مؤسسة الرئاسة، أو رأس السلطة التنفيذية.
- وفى عام 1975، تم إصدار قانون جديد بشأن تنظيم علاقة الجهاز المركزى للمحاسبات بمجلس الشعب، وقام هذا القانون بنقل تبعية الجهاز بشكل جزئى من رئيس الجمهورية إلى مجلس الشعب، وتم تعريف الجهاز فى المادة 1 من القانون كـ «هيئة مستقلة تعاون مجلس الشعب فى القيام بمهامه فى الرقابة على الأموال العامة»، ووضع القانون الجديد أسس تعيين وإعفاء رئيس الجهاز، والتى لا تتم إلا بموافقة مجلس الشعب، وأصبح مجلس الشعب أيضًا فى القانون الجديد هو الجهة التى تعتمد ميزانية الجهاز، وليس وزارة الخزانة أو المالية.
- والقانون الحالى المنظم لعمل الجهاز المركزى للمحاسبات صدر عام 1988 وتم تعديله عام 1998. ويؤكد هذا القانون على تبعية الجهاز المركزى للمحاسبات لمجلس الشعب، وهو الأمر الإيجابى الذى يمنح الجهاز استقلالية عن الجهات التنفيذية الخاضعة لرقابته وهو ما يُعمل به فى العديد من الأنظمة الديمقراطية (فى المملكة المتحدة ــ على سبيل المثال ــ يحصل العاملون فى الجهاز على مرتباتهم من ميزانية البرلمان)، لكن فى 1998 تم تعديل القانون لينقل تبعية الجهاز مرة أخرى من مجلس الشعب إلى رئاسة الجمهورية .
- وكان القانون فى نسخة 1988 يؤكد على استقلال ميزانية الجهاز، حيث يضع رئيس الجهاز الموازنة ويعرضها على مجلس الشعب ـ وليس وزارة المالية كما يحدث مع الأجهزة والجهات التنفيذية ـ مباشرة لإقرارها بمعزل عن السلطة التنفيذية أو مؤسسة الرئاسة، وهو أيضًا النظام المعمول به فى الأنظمة الديمقراطية، ومنها المملكة المتحدة. كانت المادة 120 من النسخة الأولى من القانون، على أن رئيس الجهاز يعين بناء على ترشيح رئيس الجمهورية، وموافقة مجلس الشعب، وإن إعفاء رئيس الجهاز من منصبه لا يكون إلا بموافقة أغلبية أعضاء مجلس الشعب، وهو ما يتعارض مع القانون الصادر أخيرًا، والذى لا يشترط موافقة البرلمان على قرار الإعفاء.
- أما تعديلات المادة 202 فى نسخة 1998، فقد نزعت وتجاهلت تمامًا صلاحيات مجلس الشعب فى إقرار تعيين أو فصل رئيس الجهاز ـ وهو الجهاز المعنى بالرقابة على الحكومة ـ وأعطت كل صلاحيات التعيين لرئيس الجمهورية، ولكن على الرغم من نزع سلطة الموافقة على التعيين من مجلس الشعب، فإن تعديل عام 1998 على الأقل قد وازن ذلك بأن حمى رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات من العزل قبل انتهاء فترته التى تمتد أربع سنوات. هذه الحماية الجزئية من العزل خلال فترة السنوات الأربع تجعل الجهاز فى وضع يسمح له بحصانة ـ ولو مؤقتة ـ فى ممارسته مهامه، ولكن جاء القانون الأخير ليعطى رئيس الجمهورية هذه الصلاحية لينسف آخر ما تبقى من ضمانات لاستقلال الجهاز المركزى للمحاسبات ورئيسه، ويؤدى إلى تضارب تشريعى واضح مع القانون المنظم لعمل الجهاز، بغض النظر عن الطريقة التى سيمارس بها رئيس الجمهورية هذه الصلاحية وبغض النظر عن صحة الشائعات التى تؤكد أن القانون أتى استجابة لبعض الأصوات المطالبة بعزل رئيس الجهاز الحالى. وحتى لو ثبت عدم صحة هذه الشائعات، وبقى الرئيس الحالى فى منصبه٫ فإن قابليته للعزل فى أى لحظة هى إخلال جوهرى بفكرة الاستقلال وفلسفته التى توصى بها كافة المؤسسات الدولية المنادية بالشفافية ومكافحة الفساد. أما هيئة الرقابة الإدارية؛ فقد كانت تاريخيًّا، أكثر خضوعًا للسلطة التنفيذية من الجهاز المركزى للمحاسبات، وظلت هيئة الرقابة الإدارية هى الأقرب من السلطة التنفيذية على مدار تاريخها، منذ إنشائها عام 1964 وحتى الآن. فقانون إنشاء هيئة الرقابة الإدارية رقم 54 لسنة 1964 كان ينص على أن الهيئة تتبع رئيس مجلس الوزراء، ونصت المادة 5 من نفس القانون على أن تقارير الهيئة ترفع فقط إلى رئيس المجلس الوزراء، والوزراء، والمحافظين، والأجهزة التنفيذية، بدون ذكر المجلس التشريعى، وحتى فى الجزء الخاص بإحالة الموظفين إلى التأديب، يشترط القانون الحصول على موافقة رئيس المجلس التنفيذى، قبل إحالة أى موظف فوق درجة المدير العام (أو الموظفين الذين تتجاوز مرتباتهم الأصلية 1500 جنيه سنويًّا) إلى التحقيق فى النيابة، وينص القانون أيضًا على عدم السماح لأى من العاملين بالهيئة بالزواج بأجنبية، بدون الحصول على موافقة رئيس مجلس الوزراء. وينص القانون بالطبع على أن رئيس الرقابة الإدارية ونائبه يتم تعيينهما بقرار من قبل رئيس الجمهورية بترشيح رئيس مجلس الوزراء فى ظل غياب واضح لأى دور للمجلس التشريعى المنتخب. أما بالنسبة إلى الأعضاء الآخرين فيصدر بتعيينهم قرار من رئيس المجلس التنفيذى، ويقوم رئيس الهيئة بتأدية اليمين أمام رئيس مجلس الوزراء.
بعكس الجهاز المركزى للمحاسبات، ومنذ إصدار قانون تأسيس هيئة الرقابة الإدارية، لم يحدث أى تغييرات ملحوظة فى الإطار التشريعى المنظم لعمل الهيئة، وحافظت الأخيرة أيضًا على تقليدها منذ نشأتها بتعيين رئيس للهيئة من خلفية عسكرية، ولا يشترط القانون موافقة مجلس النواب، كما تشترط المادة 216 من الدستور، مما يؤدى بدوره إلى شبهة تعارض القانون مع الدستور الحالى للبلاد، خصوصًا وأن المادة 215 تذكر الرقابة الإدارية صراحة، كواحدة من الجهات التى ينطبق عليها أحكام المادة 216 5 .
الهيئة العامة للرقابة المالية؛ وهى الهيئة المستقلة الأخرى المذكورة نصًّا فى الدستور والتى ينطبق عليها أحكام المادة 216، وينص قانونها رقم 10 لسنة 2009 على تبعيتها للجهاز التنفيذى فى شكل الوزير المختص، ويصدر بتعيين رئيس مجلس إدارة الهيئة قرار من رئيس مجلس الوزراء بناء على ترشيح الوزير المختص، وتكون مدة المجلس أربع سنوات قابلة للتجديد. ولا يشترط القانون هنا أيضًا موافقة مجلس النواب، كما تشترط المادة 216 من الدستور. أما البنك المركزي؛ فلا يختلف كثيرًا عن الرقابة الإدارية والهيئة العامة للرقابة المالية فى تبعيته للسلطة التنفيذية، وهو الوضع الذى لا يتعارض بالضرورة مع مبادئ الحوكمة الرشيدة المتعارف، عليها حيث يعين أغلب محافظى البنك المركزى فى دول العالم بقرار من رئيس الدولة، ولكنه كالهيئات السابقة، يتعارض مع المادة 216 التى تشترط موافقة مجلس النواب على تعيين رؤساء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية، والتى جاء من ضمنها البنك المركزى فى المادة 215 من الدستور.
خلاصة القول؛ إنه بينما تشير تقارير الهيئات الدولية المهتمة بمكافحة الفساد إلى عدد من الشروط لابد من توافرها لضمان نجاح عمل الهيئات التى تهدف إلى مواجهة الفساد، فإن شرط الاستقلال السياسى والتنفيذى لهذه الهيئات والأجهزة يأتى على رأس هذه الشروط، بحسبانه ضمانا لحياد هذه الهيئات، وعلى أساس أنه من غير الجائز تحولها لكيان تابع للتوجيه السياسى، وربما تحويلها- أحيانا- لسلاح لمواجهة المعارضة أو إلى منتقدى سياسات الحكومة6. وبينما تتجه الأعراف الدولية لتحصين الأجهزة الرقابية ضد تغول السلطة التنفيذية، فى هذا الوقت نفسه، يصدر هذا القانون الذى لا يعبر فقط عن تضارب تشريعى، وانتكاسة لجهود مكافحة الفساد، ولكنه يعبر أيضًا عن تضارب داخل أروقة اتخاذ القرار، وعدم وضوح الرؤية الخاصة باستراتيجيات مكافحة الفساد. إن هذا القانون يرسخ المزيد من صلاحيات السلطة التنفيذية على وجه العموم، ومؤسسة الرئاسة تحديدًا، مما يضر بمبدأ الفصل بين السلطات، وجهود مكافحة الفساد وتعزيز أطر الحوكمة الرشيدة، فمما لا شك فيه أن غياب استقلال تلك الأجهزة والهيئات وخضوعها المباشر والمتزايد للسلطة التنفيذية يؤثر بالقطع فى عملها على مكافحة الفساد.
المراجع:
1 - جون براندولينو وديفيد لونا، معالجة الفساد عبر المعاهدات والالتزامات الدولية
iipdigital.usembassy.gov/st/.../20080604125144ssissirdile0.4081079.htm... 03 /09 /2008
2 - أمانى محمود غانم، «نحو تعزيز دور أطر الرقابة على أداء الجهاز الحكومى: بين دور هيئة الرقابة الإدارية والأنظمة البديلة»، فى، «دور الأجهزة الرقابية فى مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية»، تحرير:عبد الفتاح الجبالى وهناء عبيد، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة 2010، ص 85
3 - يمكن مطالعة مواد الدستور المصرى 2014 على الرابطwww.wipo.int/wipolex/en/text.jsp?file_id=347589
4 - الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد 2014-2018gate.ahram.org.eg/News/569971.aspx
5 - أمانى محمود غانم،مرجع سابق، ص ص 59-62
6 - د. ليلى مصطفى البرادعى، « المساءلة فى إطار مفهوم إدارة شئون الدولة والمجتمع- دراسة لدور هيئة الرقابة الإدارية»، فى، د. سلوى جمعة (تحرير) ، إدارة شئون الدولة والمجتمع (جامعة القاهرة: مركز دراسات واستشارات الإدارة العامة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2001) ص 409