لمواجهة الفساد: اقتراح لمحامى الشعب النائب العام
المصري اليوم : ضياء رشوان
هو ملف من عشرات الملفات الشائكة والمشتعلة التى تموج بها مصر خلال الشهور الأخيرة، فى وسائل إعلامها وشبكات التواصل الاجتماعى والجلسات العامة والخاصة التى تضم أكثر من اثنين من المصريين. الجميع يتحدث عن الملف الأكثر شهرة فى ظل النظام السابق على ثورة 25 يناير 2011، والذى بات اليوم الأكثر جذباً لاهتمام المصريين خلال الشهور الأخيرة المشار إليها، وهو ملف الفساد.
ولاشك أن الفساد قد بات، بفضل النظام السياسى الحاكم فيما قبل يناير 2011، نظاماً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وليس حتى مجرد ظاهرة واسعة تنتشر فى قطاعات مختلفة من المجتمع والبلاد. أضحى نظاماً فى قمة المجتمع والدولة، حيث تشكل تحالف صلب وواسع النفوذ بين مَن يملكون المال والشركات والمشروعات من بعض رجال الأعمال (لا يمكن تقدير نسبتهم بدون معلومات صحيحة ودقيقة)، وبين بعض المنتمين للشرائح العليا فى إدارات الحكومة والقطاع العام وبعض أجهزة الدولة الأخرى (أيضاً لا يمكن تقدير نسبتهم بدون معلومات صحيحة ودقيقة)، الذين يملكون اتخاذ القرار وتسهيل المصالح ومنح التصريحات والتراخيص. هذا الفساد فى القمة تحول لنظام مستقر يفرز مصالح متبادلة بين طرفى تحالفه، وفرت لهما ثروات هائلة يصعب الاقتناع بمشروعية مصادر غالبيتها، ووفرت أيضاً نفوذاً سياسياً واجتماعياً للطرفين، خاصة للأول، بدت مؤشراته واضحة فى تسللهم لبعض المناصب المنتخبة أو المعينة الرئيسية، وفى التأثير الذى يصل لحد ترهيب الدولة وابتزازها. ونتيجة لهذا التحالف النافذ والقادر فى قمة المجتمع والدولة استطاع طرفاه أن يؤمِّناه بترسانة هائلة الصلابة من التشريعات القانونية واللوائح والقرارات والإجراءات الإدارية، وشبكة أكثر هولاً واتساعاً من المساندين للفساد على هذا المستوى العالى، من فئات اجتماعية متوسطة وأدنى ينخرط أفرادها كعاملين فى مختلف قطاعات الدولة.
أما الفساد الآخر، الأكثر اتساعاً من حيث الانتشار فى المجتمع والأكثر خطورة فى مواجهته، وإن ظل دوماً الأقل فى حصول ممارسيه على نصيب من كعكة الفساد الهائلة التى تضخمت عبر سنوات النظام الأسبق الثلاثين، فهو يمثل العنصر المساعد والعمود الثانى فى مساندة فساد القمة. فساد الوسط والقاع فى المجتمع المصرى والدولة لم يكن اختياراً لمَن يقومون به ويشاركون فيه من الفئات الوسطى والصغرى فى كليهما، بل كان ممارسة اضطرارية فى معظم الأحيان لمواجهة هزال الرواتب والدخول لهؤلاء وتصاعد معدلات الغلاء والتضخم، وتراجع بل انهيار مؤسسات الدولة التى تقدم السلع والخدمات الأساسية لعموم المواطنين، وأبرزها التموين والتعليم والصحة. هذه العوامل وغيرها أسست نظام فساد الوسط والقاع، الذى بات هو الوسيلة الوحيدة لكى تستطيع أغلبية المصريين من هذه الفئات امتلاك القدرة على الحياة شبه الكريمة، وأحياناً الأدنى من هذا، بينما اختفت كل الوسائل المشروعة الأخرى. وقد تغلغل هذا النوع الثانى من الفساد فى الغالبية الساحقة من محاور المجتمع والدولة ومناطق البلاد ومفاصلها، بما جعله فى النهاية نظام حياة، يصعب على المنخرطين فيه أن يجدوا نظاماً آخر لحياتهم، وكفى بما يجرى فى قطاع التعليم مثالاً لهذا التعقد لهذا النوع من الفساد، الذى أضحى نظاماً يساهم فيه الجميع ويرضون به ولا يستطيعون منه فكاكاً.
مواجهة هذين النوعين من الفساد باتت ضرورة لا غناء عنها لبناء مصر الجديدة، التى ثار من أجلها المصريون مرتين فى نحو عامين فقط. ومواجهة هذين النوعين تستلزم إرادة سياسية كما يقول الجميع، ولكنها أيضاً تستلزم معها حسماً وحكمة يتفاعلان معاً فى رؤية واضحة ومفصلة فى برنامج زمنى للأولويات والاحتياجات لنجاح هذه المواجهة، فمحاربة الفساد، خاصة الفساد الثانى فى الوسط والقاع، ليست فقط مجرد إجراءات أمنية وقانونية حاسمة فى مواجهة حالاته، بل معها، وقبلها أحياناً، سياسات وإجراءات اقتصادية وسياسية واجتماعية لإيجاد البدائل المشروعة للمنخرطين فيها بما يوفر لهم حاجاتهم الأساسية والكمالية بطرق قانونية خارج نظام الفساد. أما الفساد الأول فى القمة والأكثر توحشاً وشراسة وقدرة على توجيه ضربات مضادة موجعة للدولة والمجتمع، فهو يحتاج إلى نفس ما سبق ذكره، بالإضافة إلى رؤية واضحة ومفصلة لدى الدولة لخلق البدائل الاقتصادية والمالية للدعائم التى يقوم عليها التحالف الثنائى لهذا الفساد، بالتوازى مع توجيه ضربات أمنية وقانونية لنماذجه الأكثر بروزاً وخطورة وتأثيراً على المصالح العامة.
ولاشك أنه بديهى أن ما ذُكر آنفاً من إجراءات وخطط وسياسات فى مواجهة فسادى القمة والقاع هو من صميم واجبات الدولة بمختلف سلطاتها، خاصة أجهزتها الرقابية بمختلف أنواعها. ولاشك أيضاً أن هناك وعياً لدى قيادة الدولة بأولوية هذه المواجهة واتخاذ بعض الإجراءات المهمة للقيام بها، ربما من أبرزها تشكيل لجنة استرداد أراضى الدولة، برئاسة مساعد رئيس الجمهورية، المهندس إبراهيم محلب، فضلاً عما تقوم به بعض الأجهزة الرقابية من وقت لآخر من تحركات مهمة فى مواجهة بعض مظاهر الفساد، خاصة فى القمة. ولا يمكن هنا إغفال الدور المهم للغاية الذى قام به مجلس النواب فى فساد القمح المتواصل منذ عقدين على الأقل عبر لجنة تقصى الحقائق التى شكلها من أعضائه.
ويبقى مع هذا دور شعبى وقانونى فى مواجهة الفساد لابد من القيام به لاستكمال حصاره فى مستوييه، فالملاحظ خلال الشهور الأخيرة الانتشار الكثيف للحديث عن الفساد فى مختلف وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعى وتوجيه اتهامات محددة لأشخاص أو هيئات أو جهات بالتورط فيه. ولاشك أن جزءاً من هذا الحديث ليس المقصود به الرغبة الصادقة فى مواجهة الفساد، بل كان الاستخدام السياسى لهذه الظاهرة السلبية لنزع الثقة من النظام السياسى الحالى، خاصة رئيسه. وربما يكون ضرورياً فى هذه المرحلة الحرجة وشديدة السيولة من تطور بلادنا أن يتم تنظيم وتقنين كل تلك الأحاديث والاتهامات العلنية بالتورط فى الفساد، فقيام مَن يملك من المواطنين وثائق تدين آخرين أو هيئات بالفساد بالتقدم ببلاغات بها للنيابة العامة يُعد هو الطريق الطبيعى الوحيد الذى يجب أن يسير فيه مَن يملكها، وليس فقط الحديث عنها فى وسائل الإعلام.
أما الدور القانونى فهو ما نتوجه به باقتراح إلى سيادة المستشار النائب العام، الذى ينوب عن المجتمع ويمثله فى الدفاع عن المصالح العامة وفقاً للقانون من الاعتداء عليها ويمارس من أجل هذا سلطتى التحقيق والاتهام. نقترح على معالى النائب العام لمواجهة الفساد، الذى يهدد بخطورة تلك المصالح ويصل أحياناً كثيرة لتهديد الأرواح، أن يشكل فى مكتبه قسماً من أعضاء النيابة العامة، يترأسه أحد محامى العموم، وتكون مهمته متابعة كل ما يُنشر أو يُقال فى مختلف وسائل الإعلام من اتهامات بالفساد الذى يمس المصالح العامة للدولة والمواطنين، بحيث يقوم على الفور، ووفقا لاختصاصات النيابة العامة، باستدعاء كل الأطراف التى شاركت فى هذه الاتهامات، سواء مَن وجهها أو مَن وُجهت إليه، لكى تتولى هذه الجهة القانونية الوحيدة ذات الصلاحية الفصل فى صحة ما يُنشر أو يُقال، سواء بإحالة المدانين بالفساد للمحاكمة أو بتوجيه اتهام البلاغ الكاذب لمَن لم يقدم ما يثبت اتهاماته أو لا تجدها النيابة جدية، ومن ثَمَّ أيضاً تقديمه للمحاكمة.