"وثائق بنما" سلطت عليها الضوء. كيف تتهرب الشركات الكبرى من دفع الضرائب؟
أثار تسرّبُ وثائق ماليّة (يزيد عددُها على أحد عشر مليون وثيقة) من مكتب المحاماه الخاصّ "موساك فونسيكا" (Mossack Fonseca)، في بنما، "صدمة ودُوارا وغثيانا" على حدّ تعبير افتتاحيّة صحيفة لوموند (بتاريخ 5 أبريل - نيسان 2015). النشْرُ كان انتقائيا، وتركَّزٍ على رجال السياسة، والحكّام الدكتاتوريّين، ونجوم الرياضة، وكبار أهل الفنّ، والمشاهير من أصحاب المليارات. وكان التركيز أقلّ على الشركات متعدّدة الجنسيّات والثروات الكبرى التي لا تظهر أسماءُ أصحابها الحقيقيّين، وهم عملاء ذلك المكتب، وفيه تتجاور ثرواتُهم مع أموال الجريمة المنظَّمة والإرهاب. وكان الإهتمام ضعيفا بالوثائق الخاصة بالبنوك ومكاتب المحاماه ومؤسسات إدارة الثروات، وهي كلها تمثِّل الوسطاء الضروريّين لخدمة المستفيدين من تبييض الأموال ومن إعادة تدويرها تحت أسماء وهميّة.
حصل تسريبُ "وثائق بنما" بعد سلسلة من الفضائح التي ظهرتْ في السنوات الأخيرة مثل فضيحة "اتّحاد بنوك سويسرا" (UBS) سنة 2008، و"تسريبات لوكسمبورج" (Lux Leaks) سنة 2014، و"تسريبات سويسرا" (Swiss Leaks) سنة 2015. وقد ساهمتْ كلّها في مزيد من كشف الحجاب السريّ الثقيل الذي يختفي وراءه التهرّبُ الضريبي والجريمة الماليّة. ذلك أنّ جنّات التهرّب الضريبيّ (1) تشتمل على أكثر من مائة موقع خاص بهذا النشاط، وهى تخص ما بين 16 ألف و18 ألف مليار دولار تديرها 4 آلاف شركة، وعبرها تمرّ نسبةُ 50% من التدفّقات الماليّة ومن التجارة في العالم. إنّها آليّة ضروريّة للرأسماليّة المعولَمة التي تحمّلتْها الدّولُ منذ عقود من السنين - رغم الجهود التي ظهرتْ مؤخَّرا، وخصوصا جهود "منظّمة التعاون والتنمية الاقتصاديّة" (OCDE) للحدّ من تزايد تجاوزاتها - وهي لن تزول قريبا. إنّه لأمر مثيرٌ للإستغراب أن يقول الرئيس الفرنسيّ، يوم 23 سبتمبر - أيلول 2009، صائحا في صخبٍ: "جنّات التهرب الضريبيّ والسرّ البنكيّ، أمران انتهيا وولّى عهدُهما!". ويتحول قسم مما كان من المفروض أن يضخّ فى خزائن الدول إلى القطاع الخاصّ، وذلك بإخفاء منتجات خاضعة للضرائب. فلا عجب مثلا في أن تكون ملايينُ الأطنان من الموز المستورَّد فى أوروبّا بطريقة غير شرعيّة تأتى من. جزيرة جيرسي والمعروفة بكونها ملاذا للأرباح الهاربة من الضرائب أكثر ممّا هي معروفة بإنتاج الغلال. كما أنّه لا عجب في أن تدفع جلُّ الشركات متعدّدة الجنسيّات العاملة في فرنسا ضرائب أقّل من 10% على أرباحها، فضلا عن كون هذه الأرباح قد وقع التخفيضُ عليها بشكل كبير مُجحِف بفضل قواعد وممارسات أقرّتها الشركات الدوليّة الأربع الكبرى للرقابة الماليّة. ولكن إن كان التهرب الضريبيّ في فرنسا يمثّل ما بين 60 و80 مليار يورو - وهو ما يعادل ضعف الضرائب المفروضة على الشركات - فإنّه من غير المجدي اللجوء إليه للحصول منه على جزء ممّا ينبغي أن يعود في الأصل إلى خزانة الضرائب، على حساب سائر دافعيها.
عندما تكون مستلقيا في ارتياح على أريكتك، متسلّيا بقضم البطاطس الصناعيّة المقليّة (الشيبسى) أو النقانق التجاريّة الجافّة، متابعا على شاشة تلفازك سباقا بحريّا بين زورق يمثّل عملاق صناعة اللحوم وآخر يمثّل عملاق تصنيع البطاطس، هل تعلم أنّ تسديد تكاليف سباق الزوارق ذاك إنّما يكون بما هو في صحنك؟ ذلك أنّ تكاليف السباق والسفن المؤجرة للدعاية بغرض النهوض بهذيْن العملاقيْن الصناعيّيْن تتمّ إضافتُها بالكامل إلى ثمن المنتجات التي يبيعانها لك. الواقع أنّهما قاما بتحميلك تكلفة مالية وبصفة نهائيّة ودون مقابل، وهذا هو تعريف الضريبة ذاته. وكذا الشأن، في أمور عديدة أخرى، منها مصاريف الإعلان - التي تبلغ في فرنسا حواليْ 30 مليار يورو، أي ما يعادل قرابة ثلاثة أرباع حجم الضرائب على الأرباح - التي تُضاف وتُدمَج في أثمان الموادّ والخدمات التي تُباع إلى المستهلِك. سلطة فرْض الضرائب التي كانت في السابق حصريّا بيد الدولة، صارت الآن متقاسَمة بين الدولة والمؤسّسات الخاصّة التي تقوم باقتطاعاتها الخاصّة بها. لقد غدتْ تلك الشركات محصلا ضريبيا مدرَجا في البورصة.
وما هو أسوأ من ذلك، إنّك تدفع مرّتيْن: أولا، بحكم أنّ تكاليف الزوارق سالفة الذكر مثلا إنّما تمثّل جزءا من التكاليف التي تُخصَم من الأرباح الخاضعة للضريبة، وهو ما من شأنه أن يخفّض من الضرائب المفروض عليها وبالتالي من دخل الخزانة العامة، مما يدفع الدولة، ثانيا، إلى اللجوء إليك لتحصيل المبالغ الناقصة. لو كانت هذه الشركات ذات مهارة وفطنة - وإنّها لكذلك - فإنّها ستلجأ إلى وضع ذلك النشاط تحت شعار إحدى القضايا الإنسانيّة وتدفع إليها نصيبا من دخلها، وهو ما يتيح لها أن تخفّض من مبلغ الضرائب الواجب تسديدها فى حدود 60% من مبلغ الهبة المقدَّمة إلى تلك القضية الإنسانية. وهنا أيضا تلجأ الدولة إليك لتحصيل ما صار ينقصها من دخل ضريبى، والذي صار في جيوب أصحاب الشركات. على هذا النحو تكون دفعْتَ دون علمٍ منك ولا رغبة كلّ المشاريع الخيريّة التي تقوم بها تلك الشركاتُ. ولكن لا تنتظرْ منها أن تشكرك وأن تذكرك على قائمة المانحين الكرماء. المانحون الكرماء؟ إنّهم تلك الشركات ذاتها، وهي تتكفّل بإعلان ذلك على رؤوس الملإ كما يفعل محدثو النعمة.
لا غرابة إذن في أن تتهافت هذه الشركاتُ على رعاية الأنشطة الإنسانيّة والثقافيّة والرياضيّة و"البيئيّة". تريد أمثلة على ذلك؟ إنها كثيرة. بعض شركات السوبر ماركت الكبرى دأبتْ على إعطاء الجمعيّات الخيريّة ما زاد على حاجتها من بضائع ما زالت صالحة للاستهلاك، والغرض من هذا الكرم "تلميع" صورتها أمام الرأى العام. مرحبا بكم في سلسلة شركة "بيزونورس" (Bisounours)، غير أنّ 60% من مبلغ تلك الهبات يتمّ خصمُها من الضرائب المستوجَبة للدولة، أو بعبارة أخرى فإنّ المواطن الخاضع للضريبة (مثلي ومثلك) هو الذي يموّل، دون إرادة منه، كلَّ هذه المساعدات الغذائيّة التي تتبجّح هذه الشركاتُ بها وتنسبها إلى نفسها فقط. والذي يزيدها تشجيعا على هذا هو أنّها تتجنّب بذلك دفْعَ الضرائب المفروضة على الموادّ العضويّة لو هي أتلفتْ الموادّ الغذائيّة منتهية الصلاحية بصبّ مواد مطهرة عليها. لقد تم تمّ سنُّ قانونٍ حديث يجعل هذه الهبات إجباريّة، ولكنّه لم يحذف الامتيازات الضريبية الكفيلة بحثّ الشركات التجاريّة الكبرى على أن تتصرّف تصرّفا أكثر لياقة. نحن إذن نواصل دفْعَ الأموال إليها حتّى تتفضّل بالامتثال للقانون وتتكرّم بالتخلّص من الكمّيات الغذائيّة الزائدة عندها، وعلى الجمعيّات الخيريّة المنتفعة بذلك فرز البضائع والفضلات غير الصالحة للاستهلاك.
تريد مثالا آخر على هذا؟ إليك مثال الشركة متعددة الجنسيّات المتخصصة في المنتجات الفاخرة، شركة لويس فويتون - موات هنيسي - (Moët Hennessy - Louis Vuitton - LVMH). لقد اكتشفتْ في نفسها فجأة ولعا شديدا بالإبداع الفنّيّ، وهو ولع جدير بكلّ تقدير، خصوصا وأنّ رئيسها برنار أرنو، صاحب أكبر ثروة في فرنسا، قد أسّس هذه المجموعة التجارية الضخمة دون أن يُبدِع شيئا، حيث اكتفى بالاستحواذ على بعض العلامات التجاريّة المشهورة، بكلّ الوسائل، وكما ينبغي لكاسرٍ ناجح في رصْد فرائسه ذات الصيت. ولكن بعد أن شبع أصحابُ الأسهم، ما الذي يستطيع فعْلَه بفائض الأرباح حتّى يُفلت من الضرائب "الذي يراها ضرْبا من المصادرة"؟ يوجد حلٌّ أمامه وهو التالي: أن يستثمر فوائض الأرباح تلك بصفة جزئيّة في الفنّ والثقافة، وهي طريقة أنيقة للرفع من قيمة المنتجات الفاخرة التي تُباع في السوق، مثلما ترتبط الخمر الجيّدة باستهلاك المآكل الرائقة. ولإنجاز هذا الاستثمار تمّ تكوينُ مؤسّسة - هي مؤسّسة لويس فويتون - Fondation Louis Vuitton - خاضعة لإدارة المجمّوعة التجارية المذكورة وهي مموَّلة من هبات مأخوذة من الضرائب المستوجَبة على أرباح الشركات التابعة له فى حدود 60% وبما لا يتجاوز نسبة 0.5% من حجم الأعمال. إن بلغ حجم الأعمال هذا 30 مليار يورو - وهو ما ينطبق على شركة لويس فويتون - موات هنيسي - فإنّ السقف الأعلى للتبرّعات يكون إذن بمقدار 150 مليون يورو سنويّا، يتمّ استرجاعُ 90 مليون يورو منه، وهو بمثابة العلاوة أو المنحة التي يمكن أن تمتدّ الاستفادة منها على السنوات الخمس المقبلة إذا لم يتمّ استيفاء إنفاقها. هذا المبلغُ كاف لتمويل إنجازات جيّدة منها متحف بديع مقام في غابة
"بولوني" (Boulogne) بباريس على حديقة ترفيه بمساحة ثلاثين هكتارا، وقد أُسنِد استغلالها إلى. شركة لويس فويتون - موات هنيسي! مرّة أخرى تتولّى الدولة، أي المواطن المطالَبُ بالضرائب، تمويلَ جلّ الميزانيّة اللازمة لهذه المؤسّسة دون أن يكون لها (الدولة) أدنى حقّ في مراقبة سياستها في الإدارة والتصرّف.
في نهاية الأمر، يجري كلُّ شيء وكأنّ السلطات العامة، التي من المفروض أن تمثِّل في النُّظُم الديمقراطيّة إرادةَ المواطنين، تتخلّى للقطاع الخاصّ عن وسائل تمويل السياسات الثقافيّة والرياضيّة والبيئيّة وغيرها، وذلك عندما تُحوِّل إلى هذا القطاع وبصفة غير مباشرة جانبا من دخل الضرائب ومن سلطة اقتطاع الضريبة بتعلّة أنّ الدولة. لم يعدْ لديها مال! إذن عليها مراقبة حسن إدارة الضرائب المخصَخصة. إنّه لرهان خاسر حسب ما جاء في تقرير حكوميّ (2) نظرا إلى تضخّم عدد المؤسّسات التابعة لمثل هذه الشركات وتزايد قدراتها على إمكان تمويل أنشطة وعمليّات خارج البلاد. هذا التطوّر يندرج في حركة أشمل لخصخصة أدوات عمل الدّول لصالح وسائل مَن وصفتْهم الكاتبة سوزان جورج بعبارة "المغتصِبون (3)"
إن القانون الضخم للضرائب مليء بأحكام أطلِقتْ عليها "أعشاش ضريبية" وهي عبارة، على ما يشوبها من حياء ظاهريّ، تظل في خدمة أصحاب الوضعّيات الماليّة الأفضل من الأشخاص والشركات. جميع الناس يعلمون أنّ القانون في نزاهته المهيبة يمنع النومَ تحت الجسور على الأغنياء وعلى الفقراء جميعا. وبالطريقة ذاتها يشجّع هذا القانونُ هؤلاء وأولئك على الاستثمار في طائفة من الأنشطة تتراوح بين القطاع العقاريّ والإنتاج السينمائيّ مرورا بالخدمة فى المنازل لكبار السن وذوى الإحتياجات الخاصة، ممّا يتيح للأغنياء خصم نصيب هامّ من الضرائب الواجبة عليهم عبر المبالغ المخصّصة لمثل هذه الأنشطة. في هذا السباق بين التقسيمات الضريبيّة غير العادلة، تكون نسبة 1% ممن هم أكثرُ الناس ثراءً وأكبر المجموعات الاستثمارية، هي بالضرورة أكثر الأطراف استفادةً من هذا الخفض الضريبى.
جميع هذه الامتيازات ليس فيها ما يجعل الصحف الكبرى تتأثّر. وذلك راجع بلا شكّ الى أنّ لها في ذلك نصيبا هامّا: فنسبة 66% من الهبات التي تتلقّاها هي في الحقيقة متأتّية من الضرائب المطروحة ممّا كان ينبغي أن يؤول إلى خزينة الدولة، دون أن يكون هناك إثبات أنها تُستعمَل فعلا في خدمة الصالح العامّ، في حين يتمتّع صحفيّوها بتخفيض شامل مسبّق للضرائب في حدود 7650 يورو. أمّا بالنسبة إلى المحظوظين القلائل على رأس الشركات والمجموعات التجارية الكبرى، فإنهم يسكنون، ويتنقّلون، ويتمتّعون، ويعيشون في بذخ على حساب المؤسّسة، أي جزئيّا على حسابنا نحن. بقياس العولمة لا يمثّل هذا شيئا كبيرا حسب ما يقوله المدافعون عن هذا الوضع. وعلى كلّ حال نعرف جيّدا أنّ المال لا يوفّر السعادة، ولكن لنقلْ لهم ما كتبه جول رونار منذ قرن من الزمان في يوميّاته: "إن كان المال لا يوفّر السعادة، فأعيدوه إلى أهله".
- كاتب وصحفيّ فرنسيّ
الهوامش:
(1) انظر الملفّ التالى: "الأرخبيل العالميّ للجريمة الماليّة"، لوموند دبلوماتيك، أبريل - نيسان 2000.
(2) انظر تقرير مستشار الدولة جيل باشولييه (Gilles Bachelier) وهو متعلّق بـ"قواعد نظام الضرائب الخاصّ بهبات الأعمال الإنسانية"، المركز الفرنسيّ للصناديق والمؤسّسات، باريس، فبراير - شباط 2013.
(3) انظر كتاب سوزان جورج (Susan George)، المغتصِبون: أو كيف تغتصب الشركات متعدّدة الجنسيّات سلطة ليست لها، منشورات دار سوي (Seuil)، باريس، 2014.